فوائد دراسة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم
إن البحث في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم يتضمن العديد من الفوائد، نستعرض أهمها تالياً:
1) دراسة ظاهرة الإعجاز العلمي كحقيقة علمية وواقع ثقافي:
إن النظر الصائب يحتم التعامل مع الإعجاز العلمي كظاهرة قرآنية، وحقيقة عقلية من صفات القرآن، وبالتالي فإن على علماء المسلمين أن لا يتغافلوا عن ذلك كله، وينظروا إلى الإعجاز العلمي على أنه داخل في علوم القرآن، خاصة وأنهم مطالبون بالاهتمام بكل ما يخص القرآن الكريم، معجزة الإسلام الخالدة.
وإذا كان بعض كبار علماء الغرب، أمثال: بوكاي، ومور، وجارودي، حريصين على التعرف على الإعجاز العلمي وعلى دراسته من منطلق عقلاني، فهل يكون علماء الأمة الإسلامية أقل حرصاً؟ وهل من المعقول أن ينكر بعضهم ذلك الوجود الثقافي والفكري للإعجاز العلمي، وأن يتغافلوا عن حقيقته العقلية؟
2) تجديد بيِّنة رسالة الإسلام وأسلوب الدعوة:
إذا كان المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أدركوا وجه الإعجاز البياني للقرآن، فإن الله سبحانه شاء أن يُريَ العصور التي تسود فيها الثقافات العلمية والكونية وجهاً آخر من وجوه الإعجاز القرآني، وهو وجه الإعجاز العلمي، الذي يناسب فكر البشر في هذه العصور، وبذلك تتجدد بيِّنة رسالة الإسلام، وتقوم عليهم حجة القرآن بما أدركوا فيه من الإعجاز المناسب لعقولهم، وقد أصبح كل الناس -على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وأوطانهم- مدعوين للنظر في هذه البراهين، ومطالبين بالاقتناع بها، وبالتالي هم مطالبون بالإيمان بمعجزة القرآن. وبهذا تصبح تلك البراهين إلى جانب الأدلة المستمدة من عقيدة التوحيد في التشريعات والأخلاقيات والسلوكيات الإسلامية ألسنة الدعوة ومصابيح للهداية إلى دين الإسلام. أضف إلى ذلك ما يحدثه وجه الإعجاز العلمي من الثقة وزيادة اليقين لدى المسلمين، الذي فتنوا في دينهم بالعلوم الكونية، التي هي عماد تقدم الحضارة المادية المعاصرة.
3) التوسع في فهم القرآن الكريم:
لا شك أن استخدام المعلومات والمعارف العلمية في تفسير آيات القرآن الكريم سيجعل معاني الآيات -خاصة آيات القرآن الكونية- أكثر وضوحاً، وربما أكثر صواباً من تلك التفاسير التي أكثرت من الاعتماد على الفهم المجازي، وعلى صرف المراد من الآيات إلى أحداث يوم القيامة.
وسيظل تفسير آيات القرآن الكريم كما هو، غير أنه سيضاف إليه التفسير العلمي -أي تفسير الآيات على ضوء المعلومات العلمية- وبهذا تتسع دائرة فهم القرآن، كما تُدْرَك الحكمة من بعض التعاليم والتشريعات الواردة في القرآن الكريم، ما يضيف إلى القبول التعبدي لها قبولاً عقليًّا، ولا شك أن القبولين معاً أدعى للالتزام عن قبول واحد.
والأمثلة على ذلك كثيرة، ويسهل الإلمام بها بمطالعة التفاسير التي أضافت في هوامشها تفسيراً علميًّا لبعض الآيات، ومنها (تفسير المنتخب) الصادر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر.
ونذكر هنا مثالين لتوضيح الأمر:
* يقول الله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} (يونس:5) يقول المفسرون: الله الذي جعل الشمس تشع الضوء، والقمر يرسل النور. ويضيف التفسير العلمي فيقول: ما يصدر عن الشمس فهو ضياء، وما يصدر عن القمر فهو نور؛ ذلك لأن الضوء نور ذاتي، ينبعث من جسم مشع له بفعل الحرارة النارية المتوقدة من الجِرْم السماوي كالشمس، أما النور فهو غير ذاتي؛ لأنه صدر عن جسم بارد معتم، وقع عليه ضوء الشمس، فانعكس منه على الأرض دون أن يحمل شيئاً من حرارة الضوء، وذلك الجِرْم السماوي هو القمر.
* يقول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: {قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون} (يوسف:47) قال المفسرون: تزرعون سبع سنين دائبين على العمل في الزراعة، فما تحصدونه احفظوه في سنبله إلا ما تأكلونه. وأضاف التفسير العلمي: ثبت علميًّا أن ترك الحَبِّ في سنبله عند تخزينه وقاية له من التلف بالعوامل الجوية والآفات.
هذا هو نمط التفسير العلمي، وهذا منهجه.
4) الدوافع الإيمانية نحو البحث عن الحقائق الكونية:
إن تدبر آيات القرآن الكونية، وإنعام النظر في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم سوف ينشط المسلمين بدافع إيماني، ويرغبهم في الإقبال على البحث في الحقائق الكونية، ودراسة سنن الفطرة، وتسخير الاكتشافات فيما ينفع ولا يضر. وبهذا يصبح الإعجاز العلمي للقرآن الكريم من أهم العوامل الإيمانية التي تولد الرغبة لدى المسلمين في الإقدام على الدخول في مجالات البحوث والدراسات والاكتشافات الكونية.
المنهج الإيماني للدراسات الكونية
إن المنهج الإيماني للدراسات الكونية يربط الدراسات الكونية بآيات القرآن الكريم، وما تتضمنه من إشارات وحقائق علمية؛ وبذلك يعيش المسلم على الدوام في محراب الإيمان بالله، ومحراب العلم والتجريب. فيزداد بالمعارف والاكتشافات يقيناً بالله سبحانه، وتعظيماً وطاعة له، فهو سبحانه القائل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر:28).
ونمثل للمنهج الإيماني للدراسات الكونية بالمثال التالي:
* قوله عز وجل: {والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلاً فجاجا} (نوح:19-20) فالقرآن الكريم يعبر في هذه الآية ونحوها عن مظاهر تضاريس القشرة الأرضية، وذلك في إشارات علمية عامة، وشاملة، ومطلقة، ودقيقة، وصادقة. يقول المفسرون: إن الله سبحانه جعل الأرض مبسوطة مهيأة للانتفاع بها؛ ولولا أنه بسطها، لما أمكن الانتفاع بها، بل ولا أمكن حرثها، وغرسها، وزرعها، والبناء، والسكون على ظهرها. وشبه الله الأرض بالبساط في امتداده، واستقرار الناس عليه.
وقشرة الأرض هي الجزء الرقيق منها، والذي مهده الخالق سبحانه؛ ليكون صالحاً للحياة، وهي الجزء الخارجي البارد نسبياً، والذي يختلف عن الجزء الداخلي للأرض. والاصطلاح في معناه العام يرادف الغلاف الصخري، الذي هو في الواقع عبارة عن طبقة رقيقة مفككة، تُعْرَف (بالتربة) وكتلة من الصخور الصلبة، أو ما يُعْرَف بالجبال ترصع هذه القشرة هنا وهناك، وتنغرس في القشرة الصخرية أسفل التربة.
ويبرز وجه القشرة الأرضية من خلال الغلاف المائي في هيئة قارات، ويغطي معظم سطح القارات غشاء هش رقيق يسمى التربة، ويختلف في سمكه من مكان إلى آخر، ولم تكن قشرة الأرض في بادئ تكوين الأرض في الماضي السحيق بهذا التمهيد الذي أشارت إليه الآيات القرآنية؛ وإنما كان مسطحاً وعراً متضرّساً في ضراوة وقسوة. ثم سخر سبحانه عوامل التعرية لقشط القشرة الأرضية، وتسويتها، وقد وصلت إلى ما وصلت إليه من وجود طبقة رقيقة وناعمة عن طريق ما يُعرف بالتجوية (weathering). وهذه العوامل التي سخرها سبحانه للتخفيف من وعورة سطح القشرة وتمهيده وبسطه، تظل تعمل حتى تصل إلى ما يسمى (النقطة الحرجة) لقانون التوازن الذي وضعه سبحانه، وعندما تصل عوامل التعرية إلى هذا الحد تتوقف.
وهناك عوامل تسمى (حركات القشرة) تنشط لتعيد التوازن؛ وذلك بخفض المناطق التي ارتفعت وثقل وزنها بملايين الأطنان من المواد الأرضية التي نقلتها عوامل النقل والترسيب المختلفة. عندئذ يصدر الأمر الإلهي لعوامل التعرية بالبدء في إجراء دورة أخرى لإعادة تشكيل سطح الأرض. وهكذا تتحرك العوامل المختلفة في الوقت المناسب بإذنه سبحانه؛ لتظل الأرض مهداً وفراشاً وبساطاً، كما أشارت الآيات القرآنية.
البحث والتطبيق
بهذا التحرك العلمي لا يقف المفسرون للقرآن الكريم تفسيراً علمياً عند مرحلة استخدام المعارف الكونية التي سبق الكشف عنها، بل إنهم يبادرون إلى تدبر آيات القرآن الكونية، واستخراج ما بها من معارف علمية، سواء بالدراسات النظرية، أم بالبحوث التجريبية؛ وبذلك تتحقق أمور ثلاثة:
الأول: أن يصبح القرآن الكريم مصدراً لمعرفة علوم الفطرة (العلوم الكونية).
الثاني: أن لا يظل فهم آيات القرآن الكونية على الدوام تابعاً للمعارف الكونية، التي يتم التوصل إليها من خارج القرآن.
الثالث: أن يصبح الإعجاز العلمي أكثر إشراقاً وأكثر واقعية، ويخرج عن المرحلة النظرية والمعنوية إلى المرحلة العملية والحسية.
وسيظل علماء المسلمين -مع غيرهم من العلماء- متجهين إلى الكون المحسوس؛ لاستخراج سنن الفطرة والحقائق الكونية والمعطيات العلمية، وسيبقى القرآن الكريم مصدر إلهام للعلماء في التوصل إلى معطيات وحقائق كونية، وعن ذلك يقول عالم الكيمياء االمرحوم الأستاذ محمد أحمد الغمراوي -رائد الدراسات المنهجية للإعجاز العلمي-: "إن على علماء الفطرة من المسلمين أن يهتدوا في بحوثهم الكونية بما أنزل الله في كتابه من آيات كونية. بيد أن النظر في الآيات الكونية ابتغاء الاهتداء إلى ما أودع الله فيها من أسرار الفطرة، يحتاج من الاحتياط في البحث عن أسرار الفطرة في الكون المنظور. وأهل القرآن من علماء الفطرة ينبغي أن يسترشدوا في بحوثهم بما يتعلق بها مما أنزل الله في كتابه العزيز، فهو نور بأيديهم لا بأيدي غير المؤمنين به، ومن التضييع إغفاله وإهمال فرص الاهتداء به".
ولبيان معنى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في مجال التطبيق، نقدم المثالين التاليين:
أولاً: قوله سبحانه: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} (لقمان:19) هذه الآية الكريمة هي مفتاح الدراسة التي توجه عناية العلماء والباحثين إليها.
يقول المفسرون في المراد منها: إن أوحش الأصوات صوت الحمير. وقال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير، وآخره شهيق. وقال مجاهد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير. وقد روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطاناً).
والمطلوب بخصوص هذه الآية:
1- إجراء دراسات صوتية {لصوت الحمير} عند النهيق، على ضوء المعارف الحديثة في علم الصوتيات، وباستخدام أجهزة القياس وغيرها من الأجهزة التي يحتاجها البحث؛ وذلك بغرض التعرف على جوانب القبح في صوت الحمير من وجهة نظر العلم التجريبي. وذلك بالمقابلة مع أصوات بعض الحيوانات التي تفوق صوت الحمير في القوة والرعب، كزئير الأسد مثلاً.
2- إجراء الدراسات الفسيولوجية على الإنسان للتعرف على التغيرات الجسدية التي تحصل له.
3- إجراء دراسات استقصائية عن إنكار صوت الحمير من منطلق الأحاديث النبوية التي تدعو الإنسان إلى الاستعاذة من الشيطان عند نهيق الحمار، وهي أحاديث كثيرة وصحيحة. ويحتاج الأمر إلى إجراء دراسات فسيولوجية على الحمار في حالة النهيق، وقد يكشف ذلك عن حدوث تغيرات في صوت الحمير عند النهيق.
والبحث في ظاهرة نهيق الحمار وإنكار صوتها ليس من قبيل الترف العلمي، وتبديد الجهود البحثية، وليس لمجرد الرغبة والحماس لتأكيد الإعجاز العلمي للقرآن، وهو التعرف على سنن الفطرة من خلال دراسة الظواهر الكونية، بصرف النظر عن حجم الظاهرة الكونية والشيء المتعلق بها. والشاهد على ذلك سقوط الثمار من على الأشجار، الذي لفت نظر العالم الشهير نيوتن أثناء مشاهدته لسقوط تفاحة من أعلى الشجرة، ونظره إلى ذلك كظاهرة حركية، فأخذ الموضوع على محمل الجد، وأخضعه للدراسات التي كشفت في النهاية عن أسرار وسنن كونية وقوانين عن الجاذبية، قادت إلى فوائد عظيمة.
وقد تؤدي دراسة صوت نهيق الحمر على ضوء الآية الكريمة والأحاديث النبوية، إلى إحراز معلومات ومعارف تفيد في الطب، وفي علم الصوتيات، وفي أمور غيبية، لكنها تعايشنا، وتحيط بنا، ألا وهي الشياطين.
ثانياً: قوله عز وجل: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} (الحديد:25) مفتاح الإشارة العلمية القرآنية هو كلمة {أنزلنا} وهي تفيد أن الحديد لم يكن موجوداً بالأرض، ولكنه نزل إليها من أعلى.
وتجري الدراسات لمعرفة مصدر الحديد الذي يوجد بالأرض وبخاصة في باطنها، حيث يوجد بكميات ضخمة، وتشير الدراسات الأولية إلى أن الحديد لم يكن بالأرض بهذه الكميات الضخمة؛ لأنها ليست من الكواكب التي تكوِّن الحديد.
كما أنه لم يأتها من الشمس القريبة إليها؛ لنفس التعليل السابق. وتتجه الأبحاث نحو الاحتمال بأن الحديد ربما سقط على شكل نيازك حديدية ضخمة، جاءت من النجوم التي تقوم بتكوين الحديد، (كالنجوم المستعرة) التي يوجد بها الحديد بكميات ضخمة، وبهذا تكون الدراسات عن مصادر الحديد بالأرض تتجه لتتطابق مع اللفظ {أنزلنا} الذي جاء بالآية.
وفي مجال بحوث الإعجاز العلمي التطبيقية، فإن الأمر يتطلب من العلماء المتخصصين بالعلوم الإسلامية المشاركة في تلك الأبحاث للتوصل إلى حقائق علمية تطابق الإشارة القرآنية، وفي ذلك بيان وتوثيق للإعجاز العلمي في القرآن الكريم يأخذ الأسلوب التجريبي طريقاً له.
هذان مثالان يبينان كيف يمكن الاستفادة من الإشارات العلمية لآيات القرآن كمصادر إلهام، وانطلاق إلى رحاب البحث والاكتشاف للأمور الكونية وسنن الفطرة.
وليس من الضروري أن تكون الدراسات في أمور كونية مجهولة لم يسبق اكتشافها، بل يمكن أن تكون في أمور كونية لم يُسْتَكْمَلُ بحثها، كما هو في مثال إنزال الحديد، وبهذا المفهوم يتحرك التطبيق العلمي، انطلاقاً من الإشارات الكونية بالقرآن الكريم في اتجاهين:
1) اتجاه نحو المجهول من الأمور الكونية.
2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق