طالما أن التدخل الإلهي ظاهر على كل المستويات، وطالما أن الأمر بهذا الوضوح، كيف استساغ هؤلاء الإلحاد؟
في واقع الأمر أحدث اكتشاف جزيء DNA المعجز في خمسينيات القرن الماضي، واكتشاف خريطة الجينوم Genome داخل خلية كل كائن حي على وجه الأرض، تلك الخريطة المعقدة المركبة اللغوية المنتجة القانونية ضربة موجعة للملحدين.
ونقول معقدة مركبة لغوية منتجة لأن الحياة ليست إلا تنفيذ للخريطة الجينية المقننة الهادفة وهذا يجعلها دالة على مقنن هادف، فصفة الأثر دالة على صفة المؤثر.
فالحياة تسير بنظام دقيق منتج هادف واعي، تحت إشراف خريطة جينية ظهرت بمنتهى الضبط منذ البدء!
وهذه الخريطة الجينية قانونية فهي تُنشيء قوانين غاية في الضبط والتعقيد فسونار الطبيب أو رادار المرور قد صممها مصمم وفق قانون دقيق ومحكم ليؤدي الغرض الذي صُنع من أجله، وبنفس القياس العقلي نقول أن سونار الخفاش قد صممه مصمم ليؤدي قانون وظيفي دقيق ومحكم ومحدد فالخفاش يستخدم تقانة عالية لتحديد المواقع بالصدى echo location .
أمام هذه التحديات العملاقة التي لا تمهل الملحد اضطر الملاحدة إلى فرضية من أعجب وأغرب ما يكون أبقت لهم إلحادهم هوينًا، فقد اعتنق هؤلاء فرضية البانسبرميا Panspermia والبانسبرميا هي فرضية تزعم أن الحياة جائت إلى الأرض من الفضاء الخارجي!
وهذه الفرضية تشتمل على خلل معرفي ومنطقي يصل إلى حد السخافة العقلية!
لكن في البداية علينا أن نعلم أن البانسبرميا مجرد فرض عقلي حتى اللحظة، ولم تحصل على سند علمي أو رصدي واحد على الإطلاق، ولذا تصنف في قائمة العلوم الزائفة غير الحقيقية pseudo-science حتى الساعة. -1-
لكن قبل تحرير الخلل المنطقي في هذه الفروض السخيفة دعونا نذكر الخبر التالي للتوضيح: سأل الإعلامي الأمريكي بين شتاين Ben Stein الملحد الشهير ريتشارد داوكينز Richard Dawkins عما إذا كان يرى مانعاً من أن يكون أصل الخلية الحية الأُولى تصميماً ذكياً من عمل بعض كائنات اليوفو UFO –كائنات حية في الفضاء الخارجي - في زمان سحيق، فقرر داوكينز أنه لا يرى ما يمنع ذلك، بل إنها تعد- على حد قوله- جديرة بالاهتمام!
لهذا لم يجد بين شتاين إلا أن عقَّب على جواب داوكينز بتلقائية وفطرية تامة قائلاً: " إذن هو لا مانع عنده من قبول فكرة التصميم الذكي عموماً، وإنما يعترض على نسبتها إلى الخالق تحديداً !" -2-
إن افتراض كائنات ذكية أنشأت الحياة على الأرض، هذا الافتراض يفتح تسلسلاً لا ينتهي فمَن الذي خلق تلك الكائنات الذكية؟ وهكذا . ولا يجيب عن السؤال !
ثم كيف لصاحب افتراض كهذا أن يَعيب على الجواب الديني، بل إن الجواب الديني أكثر منطقية وتناسقاً مع نفسه، ويمتلك دعماً نقلياً مباشراً - النص المُقدس-، ويمتلك مستند عدم المعارِض- حيث لم تترك لنا تلك الكائنات تلك الدعوى العريضة، التي تُثبت قيامها بذلك -، أيضاً الجواب الديني أكثر عقلانية لعدم وجود التسلسل اللانهائي بداخله والذي هو مستحيل عقلاً، فالتسلسل اللانهائي تضطر فرضية اليوفو للتسليم به أو العودة للقول بالخالق الأبدي المستقل عن حدود الزمان والمكان.
وفي كلتا الحالتين تنهار أُحجية البانسبرميا.
يقول أبو الفداء بن مسعود: "فرضية مُصمم ذكي أنشأ الحياة على الأرض، هذا ليس جواباً في حد ذاته وإنما هو إرجاء المطلب المعرفي الذي يرومه السائل إلى درجة من درجات تسلسل لا نهائي لا يوصلنا إلى جواب البتة!
فما فعل المُلحد بهذا في الحقيقة إلا أن أضاف في الطريق إلى إثبات العلة الأُولى الفاعلة- الله -، افتراضاً متهافتاً لعلةٍ وسيطة لا يجد العقلاء من القرائن ما يوحي- ولو من بعيد - بوجودها أصلاً! لكنه الهروب من التكليف الديني إلى دين بلا قيود ولا إلزامات، إنه دين اليوفو دين الملاحدة الجديد!" -3-
ويقول أيضًا في هذه النقطة: "ثم إن من مسلمات مُعطياتنا عن حدث الخلق الأول سواءاً للكون أو الحياة؛ أن منظومة الخلق تلك جاءت بنواميس وقوانين كونية حتمية، فكيف يُقال أن أولئك الغرباء الذين هم داخلون في جملة تلك النواميس وخاضعين لها، قاموا بكسر تلك النواميس والقوانين وأوجدوا عندنا حياة ؟ " -4-
لكن يبدو أن الإلحاد مضطر إلى التسليم بفرضيات من هذا القبيل، لأنها الوحيدة المتاحة في مقابل الدين!
إن هذه الفرضيات هي فقط ترحيل للمشكلة إلى حيث نكون غير موجودين وانتهى الأمر على ذلك !
ثم إن عملية إبداع مصمم بهذا الذكاء هي عملية مدهشة للغاية، وتحتاج إلى قوانين خاصة هي الأخرى، وبالتالي ربما نكتشف أن الذين افترضوا هذه الفرضيات سيُجابهون يوماً ما بإلزامات ماورائية أعظم بكثير مما لو كانوا تخلَّوا عن تلك الفكرة. إننا ننتقل خطوة ما ورائية أعلى وأكثر عمقاً بهذه الفرضيات!
ومن العجيب أن فرانسيس كريك Francis Crick مكتشف الDNA يقرر في كتابه "الحياة ذاتها Life Itself" أن نشأة حياة على الأرض شيء مستحيل تلقائيًا، وبما أنه الآخر ملحد فهو يلجأ إلى نفس دعوى فريد هويل ويقرر أن فرضية البانسبرميا مخرج جاهز من هذا الإشكال الذي يحمل إلزمات ميتافيزيقية-ماورائية لاهوتية دينية-. -5-
عند هذه النقطة يحلو بنا أن نرحل إلى قضية الارتقاء "التطور" ونعرضها على مقصلة العلم، بعد أن أثبتنا سخافة البانسبرميا ومغالطات الملتحفين بالإلحاد، وتأتي محاكمة الارتقاء –التطور- تنزلاً منّا مع الخصم، وإلا فإننا كما قلنا في المقال السابق ليس من المنطقي ولا العقلي أن نتجادل في التطور ولم ينضبط للمخالف النشوء، لكن نعتبر هذا من باب عدم ترك مقولة لقائل، وسنُحاكم في رحلتنا هذه "التطور" إلى قيود العلم لننظر أتهتدي بقيوده أم أن قصور أدلتها جعلها من الذين لا يهتدون!
فإلى الرحلة مع مقالاتنا القادمة إن شاء الله...
هوامش المقال
----------------
1- http://www.ideacenter.org/contentmgr/showdetails.php/id/849
2- http://www.youtube.com/watch?v=9M_ZF8r5e7w
3- آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين، أبو الفداء ابن مسعود، دار الإمام مسلم للنشر، ص 365
4- المصدر السابق ص 366.
5- Crick, F. H. C. and Orgel, L. E., 1973, Icarus, 19, 341.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق